تجربة الوحدة الأوروبية .. التماسك أو الانفصال
الاقتصادية
كانت تجربة السوق الأوروبية المشتركة نموذجا للتكامل والتنسيق بين دول شكلت عوامل الاختلاف بينها سببا لصراعات طويلة انتهت مع مرور الزمن بدروسه المؤلمة إلى القناعة الكاملة بأن التعاون خير من التنافر، حيث أثمرت الجهود مزيدا من القناعة فتحولت نحو الوحدة الأوروبية، وسعت حثيثا لإزالة الحواجز أيا كانت, بل فتحت الباب للشركاء في جغرافية القارة للولوج إلى نادي الأثرياء حتى إن كانوا غير جديرين به رغم أن الانتصار للشركاء في القارة يجب ألا يأتي على حساب الموازين الاقتصادية. وبدت الوحدة الأوروبية أكثر استعدادا لبناء تجمع دولي ذي معيار جغرافي جامد لمواجهة تكتل أمريكي يجمعه عنصر الوحدة السياسية والاجتماعية والاقتصادية حتى بدا أن الأوروبيين في مواجهة مع الآخر كيد واحدة وكبديل أيضا.
واليوم تمر التجربة الأوروبية بأقسى اختبار للاستمرار أو الانفصال, بل إن الدولة المستضيفة لعدد من المنظمات الأوروبية، وهي بلجيكا التي سترأس المجموعة قريبا تعاني تفككا بين قوميتين فرانكوفونية وفلمنكية تعصفان بوحدة الدولة وكيانها السياسي في صورة مصغرة لما يعصف بالقارة كلها. المنادون بالعودة عن الوحدة النقدية يرون أنه لا يوجد مبرر للتضحية بمزيد من الخسائر وتحمل الأضرار، بينما يرى أنصار الوحدة أن هناك كثيرا مما يجب التضحية به لأجل موقف أوروبي موحد لتجاوز الأزمة الطارئة.
وبين مؤيد ومعارض هناك تهاو سريع في سعر صرف اليورو جعل الواقفين على الشاطئ الأطلسي المقابل لأوروبا يحذرون من التدخل لأي عملية إنقاذ وكأنهم يرغبون في استمرار عوامل التفكك لجني مزيد من الأرباح وتحقيق مكاسب اقتصادية في لحظة ضعف أوروبية قد تتبعها لحظات ضعف تستنزف أرصدة أوروبا داخلها وخارجها، وتفرض عليها الانكفاء طويلا لحل مشكلاتها وتعطيل مسيرة الأقوياء فيها عن ماراثون السباق العالمي، حيث تقفز دول أخرى كانت بالأمس في طور التخطيط وهي اليوم في دور التنفيذ السريع لأهدافها والتقدم في مراكز الترتيب العالمي للمنتجين والمصدرين والحائزين أكبر رصيد من العملات الأجنبية.
لقد غيرت الأزمة المالية العالمية الخريطة الدولية، وأعادت رسمها، ونقلت جزءا من المركزية العالمية من الغرب إلى بعض أسواق الشرق، ولعل الأرقام التي تعكس حجم النمو في الصين والهند توضح الفارق الكبير بين ما يجري في الشرق وما يجري في الغرب. ويبدو أن الذين خططوا لغزو الأسواق العالمية عن طريق تحرير التجارة وفتح الأسواق وفرض رؤيتهم الخاصة بالتجارة لم يحسبوا أي حساب لقدرات الآخرين بل ظنوها غير قادرة على الصمود، معتمدين في ذلك على الثقة بالتفوق في كل شيء، ولكنهم فشلوا في حماية أسواقهم, لأنهم اعتقدوا أن فرصة الهجوم سانحة، ونسوا أن دفاعاتهم, التي ظنوا أن متانتها غير قابلة للاختراق, غير كافية للدخول في مواجهة اقتصادية مفتوحة مع العالم كله.
إن النزعة نحو الوحدة الاقتصادية بعد معاناة أوروبا مع وحدتها لم تعد مغرية كما كانت عليه في السابق، بل إن الفكرة في حد ذاتها تتضمن أخطارا عالية جدا، فالدولة كيان سياسي واجتماعي واقتصادي واحد يجمعه وحدة قيادية وإشرافية يستطيع بوحدته تجاوز أزماته، كما أن رسوخ عوامل وحدة كيان الدولة تضمن تفادي انهياره، وهي مقومات غير موجودة في التكتلات الاقتصادية. وتظهر الأزمات دائما تحمل المجموعة كاملة نتائج أخطاء الأعضاء فيها، ويتعذر مع مفهوم سيادة الدولة تدخل المجموعة أو الأعضاء في سياسة كل عضو، وتبقى مسألة الانضباط في تطبيق قانون الوحدة مسألة داخلية وغير قابلة للاكتشاف إلا عند حدوث كارثة ترفع الستار عن المستور, فهل تعيد أوروبا ترتيب بيتها أم ستعيد بناءه؟
ان شاء الله تستفيدي بهذه المعلومات أختي