من ذكاء الأطبّاء
• حدّثنا بعض الأطباء الثقات أن رجلا من بغداد قدم الريظو فلحقه في طريقه أنه كان ينفث الدم, فاستدعى أبا بكر الرازي الطبيب المشهور بالحذق, فأراه ما ينفث ووصف له ما يجد, فنظر الى نبضه وقارورته, واستوصف حاله, فلم يقم له دليل على سل ولا قرحة, ولم يعرف العلّة, فاستنظر العليل لينظر في حاله, فاشتدّ امر على المريض, وزاد ألمه.
وفكّر الرازي, ثم عاد اليه فسأله عن المياه التي شرب. فقال: انها من صهاريج ومسقفات, فثبت في نفس الرازي بحدّة خاطره وجودة ذكائه أن علقة كانت في الماء, وقد حصلت في معدته, وذلك الدم من فعلها. فقال:
اذا كان في غد عالجتك, ولكن بشرط أن تأمر غلمانك أن يطيعوني فيك بما آمرهم.
قال: نعم.
فانصرف الرازي, فجمع مركنين كبيرين من طحلب, فأحضرهما في غد معه, لإاراه اياهما وقال: ابلع جميع ما في هذين المركنين.
فبلع شيئا يسيرا, ثم وقف.
قال: ابلع.
قال: لا أستطيع.
فقال للغلمان: خذوه فأقيموه.
ففعلوا به ذلك وطرحوه على قفاه وفتحوا فاه, فأقبل الرازي يدس الطحلب في حلقه ويكبسه كبسا شديدا ويأمره ببلعه ويتهدده بأن يضرب الى أن بلع كارها أحد المركنين بأسره والرجل يستغيث.
فذرعه القيء, فتأمّل الرازي ما قذف به فاذا فيه علقة, واذا هي لما وصل اليها الطحلب قربت اليه بالطبع وتركت موضعها, فالتفّت على الطحلب, ونهض العليل معافى.
• حدثنا علي بن الحسن الصيدلاني قال:
كان عندنا غلام حدث, فلحقه وجع في معدته شديد بلا سبب يعرفه, فكانت تضرب عليه أكثر الأوقات ضربا عظيما حتى يكاد يتلف, وقلّ أكله, ونحل جسمه, فحمل الى الأهواز, فعولج بكل شيء, فلم ينجح فيه, وردّ الى بيته وقد يئس منه.
فجاز بعض الأطباء فعرف حاله, فقال للعليل: اشرح لي حالك في زمن الصحة.
فشرح الى أن قال: دخلت بستانا فكان في بيت البقر رمّان كثير للبيع, فأكلت منه كثيرا.
قال: كيف كنت تأكله؟
قال: كنت أعض على رأس الرمّانة بفمي, وأرمي به واكسرها قطعا وآكل.
فقال الطبيب: غدا أعالجك باذن الله تعالى.
فلما كان من الغد جاء بقدر اسفيداج قد طبخهما من لحم جرو سمين, فقال للعليل: كل هذا.
قال العليل: ما هو؟
قال: ان أكلت عرّفتك.
فأكل العليل, فقال له: امتلىء منه, فامتلأ, ثم قال له:
أتدري أيّ شيء أكلت؟
قال: لا.
قال: لحم كلب!
فاندفع يقذف, فتأمّل القذف الى أن طرح العليل شيئا أسود كالنواة يتحرّك, فأخذه الطبيب وقال:
ارفع رأسك, فقد برأت.
فرفع رأسه, فسقاه شيئا يقطع الغثيان, وصبّ على وجهه ماء ورد, ثم أراه الذي وقع فيه فاذا هو قراد, فقال:
ان الموضع الذي كان فيه الرمّان كان فيه قردان من البقر, وأنه حصلت منهم واحدة في رأس احدى الرمّانات التي اقتلعت رؤوسها بفيك, فنزل القراد الى حلقك وعلق بمعدتك يمتصّها, وعلمت أن القراد تهش الى لحم الكلب, فان لم يصح الظن لم يضرّك ما أكلت, فصحّ, فلا تدخل فمك شيئا لا تدري ما فيه, والله الموفق.
• كان ملك في الزمان الأوّل, وكان مثقلا كثير الشحم لا ينتفع بنفسه, فجمع المتطببين وقال:
احتالوا اليّ بحيلة يخفّ عني لحمي هذا قليلا.
فما قدروا له على شيء, فبعث له رجل عاقل أديب متطبّب فاره, فبعث اليه وأشخصه فقال له: عالجني ولك الغنى.
قال: أصلح الله الملك, أنا متطبّب منجّم. دعني أنظر الليلة في طالعك: أي دواء يوافق طالعك فأسقيك.
فغدا عليه, فقال: أيها الملك, الأمان؟
قال: لك الأمان.
قال: رأيت طالعك يدلّ على أن الباقي من عمرك شهر, فان أحببت عالجتك, وان أردت بيان ذلك, فاحبسني عندك, فان كان لقولي حقيقة فخلّ عني, والا فاستقص مني.
فحبسه, ثم رفع الملك الملاهي واحتجب عن الناس, وخلا وحده مهتما كلما انسلخ يوم ازداد غمّا حتى هزل وخف لحمه, ومضى لذلك ثمانية وعشرون يوما, فبعث اليه وأخرجه. فقال: ما ترى؟
قال: أعز الله الملك. أنا أهون على الله عز وجلّ من أن أعلم الغيب, والله ما أعرف عمري, فكيف أعرف عمرك؟ انما لم يكن عندي دواء الا الغمّ, فلم أقدر أن أجلب اليك الغمّ الا بهذه العلّة.
فأجازه وأحسن اليه.
• حدّثنا أبو الحسن بن الحسن بن محمّد الصالحي الكاتب قال:
رأيت بمصر طبيبا كان بها مشهورا يعرف بالقطيعي يكسب في كل شهر ألف دينار من جرايات يجريها عليه قوم من رؤساء العسكر, ومن السلطان, ومما يأخذه من العامّة. وكان له دار قد جعلها شبه المرستان من جملة داره يأوي اليها الضعفاء والمرضى فيداويهم ويقوم بأغذيتهم وأدويتهم وخدمتهم, وينفق أكثر كسبه على ذلك.
فاتفق أن بعض فتيان الرؤساء بمصر أسكت, فجعل اليه أهل الطب, وفيهم القطيعي, فأجمعوا على موته الا القطيعي. وعمل أهله على غسله ودفنه, فقال القطيعي:
أعالجه وليس يلحقه أكثر من الموت الذي قد أجمع هؤلاء عليه.
فخلاه أهله معه, فقال: هات غلاما جلدا.
فأتي بذلك, فأمر به, فمدّ وضربه عشر مقارع أشدّ الضرب ثم مسّ جسده, ثم ضربه عشرا أخر, ثم جسّ مجسّه, ثم ضربه عشرا أخر, ثم جسّ مجسّه, وقال: أيكون للميّت نبض؟
قالوا: لا.
قال: فجسّوا هذا النبض.
فجسّوه فأجمعوا أنه نبض متحرّك.
فضربه عشر مقارع أخر, ثم قال: جسّوه.
فجسّوه, فقالوا قد زاد نبضه.
فضربه عشرا أخر, فتقلّب, فضربه عشرا فتأوّه, فضربه عشرا فصاح, فقطع عنه الضرب. فجلس العليل يتأوّه, فقال له: ما تجد؟
قال: أنا جائع.
فقال: أطعموه.
فجاؤوا بما أكله, فرجعت قوّته, وقمنا وقد برئ.
فقال له الأطباء: من أين لك هذا؟
قال: كنت مسافرا في قافلة فيها أعراب يخفروننا, فسقط منهم فارس عن فرسه, فأسكت, فقالوا: قد مات؟ قال: فعمد شيخ منهم فضربه ضربا شديدا عظيما, وما رفع الضرب عنه حتى أفاق, فعلمت أن الضرب جلب اليه حرارة أزالت سكتته, فقست عليه أمر هذا العليل.
• حدّثنا أبو الحسن المهدي القزويني قال:
كان عندنا طبيب يقال له ابن نوح, فلحقتني سكتة, فلم يشك أهلي في موتي, وغسّلوني وكفنوني وحملوني على الجنازة, فمرّت الجنازة عليه ونساء خلفي يصرخن, فقال لهم:
ان صاحبكم حي فدعوني أعالجه. فصاحوا عليه, فقال لهم الناس:
دعوه يعالجه, فان عاش والا فلا ضرر عليكم.
فقالوا: نخاف أن تصير فضيحة.
فقال: عليّ أن لا تصير فضيحة.
قالوا فان صرنا؟
قال: حكم السلطان في أمري, وان برئ فأي شيئ لي؟
قالوا: ما شئت.
قال: ديته.
قالوا: لا نملك ذلك.
فرضي منهم بمال أجابه الورثة اليه, وحملني فأدخلني الحمام وعالجني, وأفقت في الساعة الرابعة والعشرين من ذلك الوقت, ووقعت البشائر, ودفع اليه المال, فقلت للطبيب بعد ذلك:
من أين عرفت هذا؟
قال: رأيت رجليك في الكفن منتصبتين وأرجل الموتى منبسطة ولا يجوز انتصابها, فعلمت أنك حيّ, وخمّنت أنك أسكت وجربت عليك, فصحّت تجربتي.
• روى بشر بن الفضل قال:
خرجنا حجاجا, فمررنا بمياه من مياه العرب, فوصف لنا فيه ثلاث أخوات بالجمال وقيل لنا: انهن يتطببن ويعالجن.
فأحببنا أن نراهنّ, فعمدنا الى صاحب لنا, فحككنا ساقه بعود حتى أدميناه, ثم رفعناه على أيدينا وقلنا: هذا سليم (اللديغ الذي لدغته أفعى أو عقرب) فهل من راق؟
فخرجت أصغرهن, فاذا هي جارية كالشمس الطالعة, فجاءت حتى وقفت عليه, فقالت: ليس بسليم.
قلنا: وكيف؟
قالت:لأنه خدشه عود بالت عليه حيّة ذكر, والدليل أنه اذا طلعت عليه الشمس مات.
فلما طلعت الشمس مات. فعجبنا من ذلك.
• شكا رجل الى طبيب وجع بطنه فقال: ما الذي أكلت؟
قال: أكلت رغيفا محترقا.
فدعا الطبيب بكحل ليكحله, فقال الرجل:
انما أشتكي من وجع بطني لا عيني.
قال: قد عرفت, ولكن أكحلك لتبصر المحترق, فلا تأكله