بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تعالى المتفضِّل بالنَّعماء، والمنزَّه عن الأنداد والشُّرَكاء، والصَّلاة والسَّلام على النَّبي قدوة الأتقياء، وعلى آله، وأصحابه أصدق أولياء، وبعد:
أخي المسلم: لا يزال المخلصون يحاسبون أنفسهم، ويتهمونها بالتقصير، ويقرعونها بسوط المجاهدة، حتى تستقيم على الجادة.
وإليك يا طالب الصَّواب وقفة جديدة من وقفات المحاسبة؛ فاحرص أن تكون وقفة صادقة مع نفسك، تستخرج كوامنها، وتستنطق لسانها.
القلب! تلك المضْغة العجيبة.. ماذا عنها؟!
القلب! هو ذلك الوعاء الذي إنْ شئتَ ملأتَهُ بالخير، وإنْ شئتَ ملأتهُ بالشَّر!
القلب! حرص العارفون على تطهيره وإخلائه من الآفات! فهل تفقدت قلبك؟!
هل وقفت على خباياه؟! ماذا يحمل؟! خيرًا فيه صلاحك، أم شرًا فيه هلاكك؟!
القلب! تلك المضغة المتقلِّبة!
{وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110].
قال بعضهم: "سُمي القلب قلبًا لتقلُّبه"، وأنشد:
ما سُمِّيَ القلبُ إلاَّ من تقلُّبهِ *** والرَّأيُ يصرفُ بالإنسان أطوارا
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهم- قال: أكثر ما كان النَّبي -صلى الله عليه وسلم- يحلف: «لا ومُقلب القلوب» [الراوي: عبدالله بن عمر، المحدث: البخاري، صحيح].
أخي المسلم: صلاحك مرهون بصلاح قلبك، بذلك نطق الصادق -صلى الله عليه وسلم-، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «ألا وإنَّ في الجسد مضغةً، إذا صَلَحَتْ صَلَح الجسدُ كلُّه، وإذا فَسَدَتْ فسَدَ الجسدُ كلُّه، ألا وهي: القلب»! [الراوي: النعمان بن بشير، المحدث: مسلم، صحيح].
إن مضغة مرهون صلاحك بصلاحها وفسادك بفسادها؛ لَحريٌّ بك أن تتفقَّدها، وتسعى إلى إصلاحها.
إن هذه القلوب مشحونة بالعجائب، والسعيد من سعى لتفقد قلبه، وعمل لإصلاحه، وتطهيره من الأدران.
لقد غفل خلقٌ كثير عن تفقُّد القلوب والوقوف على عيوبها حتى استفحل شرها، وعمَّ ضررها!
وهذه أخي المسلم وقفات مع القلب، فلتحاسب نفسك مع كلِّ وقفة منها، وأول هذه الوقفات:
أين قلبك من الإيمان الصادق؟!
إن الإيمان درجة عالية خاطب الله -تعالى- بها عباده المخلصين، كما أنه تعالى ذم أولئك الذين ادعوه ولم يوقر في قلوبهم!
قال الله -تعالى-: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آَمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ} [الحجرات: 14].
فإن للإيمان الصادق أثرًا عجيبًا على القلب؛ فترى صاحبه قوي الصلة بالله -تعالى-؛ يرضى بما رضيه الله -تعالى-، ويسخط لما أسخطه، يحب لله، ويبغض لله.
وأصدق من حمل هذا المعنى هم صحابة النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد قصَّ الله -تعالى- علينا صدق إيمانهم، فقال -تعالى-: {لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آَبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة: 22].
قال الإمام الطبري -رحمه الله-: "هؤلاء الذين لا يوادُّون من حادَّ الله ورسوله، ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم؛ كتب الله في قلوبهم الإيمان، وإنما عُني بذلك: قضى لقلوبهم الإيمان.."
وقال القرطبي -رحمه الله-: "وخصَّ القلوب بالذكر؛ لأنها موضع الإيمان".
أرأيت أخي المسلم إذا أردت أن تُقدم على فعل فيه رضا لنفسك واتباعًا لهواها؛ هل تُقدِّم رضاها على رضا الله -تعالى-؟!
في مثل هذا الموطن يظهر صدق إيمانك، وتفقُّدك لقلبك؛ فأما المؤمن الصادق فلا تراه يُقْدِمُ على فعل إلا بعد أن ينظر في عاقبته؛ فإن كان فيه رضًا لله -تعالى- أقدم عليه، وإن لم يكن فيه رضًا لله أحجم عن فعله.
وهل تفقدت الخير في قلبك؟!
فلتعلم أخي المسلم أن القلب الصالح هو الذي كان فيه للخير نصيب، فتجده عامرًا بحب الخير والصالحات، وإذا صدَّق هذا القلب يقينَه بفعله كان الجزاء من الله -تعالى- خير جزاء.
قال الله -تعالى-: {قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [الأنفال: 70].
نزلت هذه الآية في أسارى بدر؛ لما فرض النبي -صلى الله عليه وسلم- عليهم الفدية، وكان في الأسرى عن النبي -صلى الله عليه وسلم- العباس بن عبد المطلب -رضي الله عنه-، وكان على الإسلام، ففدى نفسه بأربعين أوقية.
فكان العباس -رضي الله عنه- بعدها يقول: "ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا، وإنَّ لي ما في الدنيا من شيء! فقد أعطاني الله خيرًا مما أخذ مني مائة ضعف، وأرجو أن يكون غفر لي".
وهل قلبك قلب شاكر؟!
إن شكر القلب علامة من علامات صلاحه، فأين قلبك في قلوب الشاكرين؟!
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قلبٌ شاكرٌ، ولسانٌ ذاكرٌ، وزوجةٌ صالحةٌ تعينك على أمر دنياك ودينك؛ خيرُ ما اكتنز النَّاس». [الراوي: أبو أمامة و ثوبان و علي بن أبي طالب، المحدث: الألباني، صحيح الجامع: 4409].
وأين أنت من خشوع القلب؟!
خشوع القلب هو: "خضوعه وانكساره وتذلله لله -تعالى-"، فما هو نصيبك من هذا؟!
إن خشوع القلب أمر عظيم؛ غفلت عنه القلوب الغافلة، ولأهميته أخبرنا النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه أول شيء يُرفع من هذه الأمة!
قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أول شيء يُرفع من هذه الأمة الخشوع؛ حتى لا ترى فيها خاشعًا»! [الراوي: أبو الدرداء، المحدث: الألباني، صحيح الترغيب: 542].
فإن الأكثرين أعرضت قلوبهم عن الخشوع لله -تعالى-، وسيطرت عليهم الغفلة والشهوات!
وأيضًا: أين أنت من لين القلب ورقته؟!