إن الوصية الصادقة هي التي تكون من أشد الناس محبة لك وأعظمهم شفقة عليك وأخلصهم لك في الود والمحبة، فوصية الأم مثلاً لابنها أو الوالد لولده تكون أصدق من غيرها لما تنطوي عليه في الغالب من عواطف الأمومة والأبوة الصادقة ..وهناك أمر آخر له أثر كبير في صدق الوصية وهي أن تكون صادرة من حكيم مجرب خبر الأمور وعرفها على حقيقتها..
وهكذا كلما كانت الوصية نابعة من قلب محب حكيم مجرب كانت أقرب إلى الصدق، وكان الأخذ بها نافعاً متحتماً ، بحسب ما يتحلى به ذلك الموصي من هذه الصفات الأنفة الذكر.
وهذه الوصية التي بين يديك أخي القارئ وأختي القارئة هي ليست من أمٍّ مشفقة ولا أب رحيم.. كلا ، ولكنها من أشد الناس محبة لك وأعظمهم شفقة عليك.
وأخلصهم وأتقاهم، وأطهرهم وأنقاهم ،وأفضلهم وأزكاهم ، وأحكمهم وأرجآهم ، وأكرمهم وأسخاهم ، وأجودهم وأنداهم ، وأصلحهم وأخشاهم ،وأطهرهم وأرضاهم ، وأنصحهم وأوفاهم ، وأرأفهم وأحناهم ، وأعرفهم وأهداهم ، وأحسنهم وأبهاهم ،وأودهم وآخاهم ، وأرفعهم وأعلاهم ، وأنبلهم وأسماهم ، وأعزهم وأسناهم ، وأطيبهم وأحلاهم ،وأشرفهم وأصفاهم ،وأنزههم وأحياهم ، وأزهدهم وأغناهم ، وأعزهم وأرقاهم ، وأشجعهم وأقواهم .
ليس هذا فحسب بل هو من كل الناس :
أجملهم ، وأبرهم ،وأحبهم ،وأودهم ، وأشهمهم ، وأنصحهم ، وأبصرهم ، وأخوفهم ، وأعبدهم ، وأطوعهم ، وأرهبهم ، وأشكرهم ، وأقنعهم ، وأورعهم ، وآثرهم ،وآمنهم ،وأسترهم ،وأسمحهم ، وألينهم ، وأسلمهم ،وأوقرهم ، وأعفهم ، وأغيرهم ، وأفطنهم ، وأعلمهم ، وأفقههم ، وأقسطهم وأصفحهم ، وأعدلهم ، وأرفقهم ، وأعطفهم ، وأرحمهم صلى الله عليه وسلم كيف لا وقد قال الله تبارك وتعالى فيه:{لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} (128) سورة التوبة
وقال تعالى : {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} (159) سورة آل عمران
نص الوصية: عن بن عباس رضي الله عنه قال:كنت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال: (يا غلام إني أعلمك كلمات:أحفظ الله يحفظك ،أحفظ الله تجده تجاهك ،إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشي لم ينفعوك إلا بشي قد كتبه الله لك ،ولوا اجتمعوا على أن يضروك بشي لم يضروك إلا بشي قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف ). (صحيح ) رواه الترمذي كتاب صفة القيامة باب59 برقم 2516 الجزء4/575 انظر صحيح الجامع للألباني برقم 7824 جامع العلوم صفحة 1/378
معنى ومفهوم الوصية:
هذه الوصية الجامعة النافعة من أعظم الوصايا من الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم وهي وان كانت موجهة لابن عباس رضي الله عنه إلا أنها لكل من بلغته من أمة الإسلام فان العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب كما قرر العلماء رحمهم الله جميعاً .
وقد قال عنها ابن الجوزي رحمه الله : تدبرت هذا الحديث فأدهشني وكدت أطيش ، فو أسفاه من الجهل بهذا الحديث وقلّت التفهم لمعناه. صيد الخاطر....نور الاقتباس لابن رجب صفحة 40
وهل ربنا عز وجل في حاجة إلى أن يحفظه العبد الضعيف العاجز؟!أم ما معنى أحفظ الله ؟ قال العلماء :أي أحفظ حدوده،وحقوقه وأوامره ونواهيه .
أحفظ أوامره فاتبع ،وأحفظ نواهيه فامتنع.
أحفظ الله في سرك وعلنك ،وظاهرك وباطنك ،وشدتك ورخائك ,وعسرك ويسرك ،ومحابّك ومكارهك ، وشدتك ورخائك .
وأحفظ الله في حركاتك وسكناتك ، وخطراتك ونظراتك ،وسمعك وبصرك ، ولسانك وبنانك , وبطنك وفرجك , ومطعمك ومشربك ، وقلبك وجوارحك ، ومظهرك ومخبرك .وحلك وترحالك .
وأحفظ الله تعالى في فرائضه ونوافله ، وواجباته ومستحباته ، وحدوده ومحارمه .
وأحفظ الله في أمك وأبيك ، وأقاربك وأرحامك ،وأهلك وأبنائك ، وجيرانك وزملائك ، وعشيرتك وأمتك .
أحفظ الله في عقيدتك وعبادتك, وصلاتك وصيامك ، وحجك وعمرتك ، وصدقتك وزكاتك , وبيعك وشرائك ، وأمرك ونهيك .. وجماع الأمر أحفظ الله في شأنك كله.
ولا يفهم من هذا أن الحافظ لله هو الذي لا يقع في الذنب والخطيئة ! كلا .. فالعصمة المطلقة لله وحده سبحانه وتعالى.
فهذا عهد من الله لمن حقق ذلك أن يحفظه ومن أوفى بعهده من الله .
الحفظ حفظ مطلق وليس مقيد بجانب معين ولكنه يشمل كل جوانب الحياة:
وهذا الحفظ من أي شي ؟
هنا أطلق صلى الله عليه وسلم الحفظ ، فلم يقل أحفظ الله يحفظك من الأعداء أو من المصائب أو من المرض مثلاً وإنما قال : أحفظ الله وسكت ليشمل كل أنواع الحفظ ،فالحفظ من الأعداء ،والحفظ من المصائب،والشبهات،والشهوات والهم والحزن والمرض والدَين، والفقر إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلا الله تبارك وتعالى .
الحفظ حفظ عام فهو ليس خاص بالأنبياء والرسل ولا الصحابة والتابعين ولا السلف دون الخلف:
فقد يتبادر إلى ذهن بعض الناس أن الحفظ خاص بالأنبياء أو العلماء وهذا ليس بصحيح ،نعم أولئك أولى الناس بالحفظ ولكن ليس خاصاً بهم .
بل هو لكل من حفظ الله في كل زمان ومكان كما يشهد بذلك الواقع ، وسيتضح ذلك بإذن الله تعالى من خلال عرض صور حفظ الله عز وجل لعباده ألصالحين.
ملاحظة:
قد يرد إشكال على البعض فيقول :كيف نوفق بين قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((أحفظ الله يحفظك)) وبين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل)) وقوله صلى الله عليه وسلم : (( الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)) صحيح مسلم 2956
والجواب : أن يقال إن الابتلاء نوعان نوع يكون معه ذلة ومهانة وخسران للدنيا والآخرة كما يحدث لأعداء الله تعالى فأن بلائهم يكون فيه إذلالاً لهم وترغيماً لأنوفهم وخسارة الدنيا والآخرة عياذاً بالله.
وهناك نوع آخر من البلاء لا يكون فيه إذلالا ولا مهانة بل يكون معه عزة وتكريماً وزيادة في الأجر ورفعة في الدرجات ومحواً للسيئات وقد يكون اختباراً وتمحيصاً فهذا النوع يحدث كثيراً لعباد الله الصالحين كما في الترمذي عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن عظم الجزاء مع عظم البلاء وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم فمن رضي فله الرضا ومن سخط فله السخط )) سنن الترمذي [2396] (حسن) سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني رقم 146
وكما في الترمذي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلت يا رسول الله أي الناس أشد بلاء؟ قال: ((الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل فيبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان دينه صلبا اشتد بلاؤه وإن كان في دينه رقة ابتلى على حسب دينه فما يبرح البلاء بالعبد حتى يتركه يمشى على الأرض ما عليه خطيئة)) سنن الترمذي [2398] قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (صحيح) رقم 143
ولكن النوع الأول من البلاء والذي يكون فيه مهانة وإذلالا للعبد وخسارة الدنيا والآخرة هذا الذي يحفظ الله منه الصالحين .
تنبيه آخر:
وهنا ننبه على شبهة خطيرة وخطيرة جداً وهي أن الشيطان يصد كثيراً من الناس عن فعل كثير من الخيرات بحجة أن هذا من فعل الأنبياء والمرسلين أو الصحابة والتابعين أو سلفنا الأولين وهم شيء ونحن شيء آخر !!
فإذا حدثتهم عن الأنبياء والرسل أو الصحابة والتابعين أو علماء السلف الصالح،قال : أتريد أن نكون مثل أولئك ؟!!
وهذا ولا شك من كيد الشيطان وصده للناس عن فعل الخير ، فأولئك قدوة كل مؤمن وأسوة كل صالح فليتنبه لذلك.
نسأل الله تعالى أن يحفظنا بحفظه ويكلأنا برعايته ويرزقنا مراقبته وخشيته في السر والعلن والحمد لله رب العالمين