كان الإنسان في حضارة «المايا» القديمة يعتقد أن الفجوات الموجودة في
صخور الغابات التي تحتوي على مياه شديدة النقاء ليست سوى بوابات للعالم
السفلي وعرش «إله المطر» الذي يهدد الكون دائما ويتعين تهدئته بقرابين
بشرية. والآن، فإن هذه الفجوات العميقة بالصخور الجيرية التي تحتوي على
المياه في أسفلها تخرج اكتشافات علمية ربما يكون من بينها وسائل لعلاج
مرض السرطان.
وينزل الغواصون، مزودين بخزانات هواء ووسائل إرشاد ومصابيح مقاومة
للمياه، الى تلك الفجوات التي تزخر بها شبه جزيرة يوكاتان لاكتشاف شبكة
أنهار هائلة تحت الارض. وقد تمكنوا حتى الآن من رصد 650 كيلومترا من
القنوات التي تشكل جزءا من نهر هائل تحت الأرض يصب في البحر الكاريبي
وهذه هي مجرد البداية. ويجري العلماء دراسات حول شبكة من الكهوف
والدهاليز التي شكلتها مياه الأمطار التي تمر عبر الحجر الجيري المسامي
ووجدوا ثروة من الآثار وعظام حيوانات ما قبل التاريخ. كما رصدوا العشرات
من الأنواع البحرية الجديدة التي تكيفت على وجه الخصوص لتحمل الظروف
البيئية القاسية والتي يمكن أن تستخدم في المجالات الطبية.
وفي ريفييرا مايا، وهي شريط من المنتجعات السياحية في الكاريبي بما في ذلك
موقع تولوم الأثري الشهير، يوجد أكثر من 500 فجوة صخرية بعضها ينفذ
الى الغابات في حين أن فجوات أخرى بها ثقوب صغيرة للغاية مثل فتحة العين
تسمح بدخول ضوء الشمس وجذور الأشجار. تسربت مياهها عبر الحجر
الجيري الذي يشبه الاسفنج مما جعلها شفافة للغاية حتى أن الغواصين يقولون
إنهم يشعرون وكأنهم يعومون في الفضاء. وتتراوح أعماق عيون المياه من عدة
أمتار الى أعماق كبيرة لم تصل اليها بعد يد الاستكشاف متعدية 150 مترا.
وقال توم ايليفي عالم الأحياء البحرية من جامعة تكساس «إيه أند إم»: «اتضح
أنها بيئة فريدة. إننا نعثر على أشياء بالأسفل بما في ذلك أشكال حياة لم يكن
يتصور أحد على الاطلاق أنها موجودة وما زالت هناك حاجة الى عمل كثير».
وتقع شبه جزيرة يوكاتان على هضبة من الصخر الجيري حيث تتسرب مياه
الأمطار الى صخور غير مسامية تحت الارض. وعلى مدى ملايين السنين
تشكلت شبكات أنهار تحت الأرض تصب في البحر عبر الكهروف. وتشكلت
الفجوات الصخرية بالمنطقة التي يبلغ عددها سبعة أو ثمانية آلاف عندما انهارت
الكهوف. وأصبحت الفجوات الصخرية مصدرا حيويا للمياه ومحور تركيز
القرابين التي كان يقدمها السكان من حضارة «المايا» بهدف التقرب الى الإله
«شاك» المتقلب الشبيه بالتمساح.
وفي السنوات الأخيرة رصد علماء الأحياء الذين يصلون إلى شبكات الأنهار
الموجودة تحت الارض 40 نوعا جديدا تماما من الكائنات أغلبها من الربيان
والأسماك التي لا تبصر بسبب انعدام الضوء وحيث يندر الاوكسجين الذائب في
المياه والغذاء. ومن بين الاكتشافات المذهلة كائنات دقيقة تعيش في منطقة
انتقالية حيث تصب المياه العذبة في البحر الكاريبي وحيوان الاسفنج الذي يعيش
في المياه المالحة والذي قد يحتوي على مركبات مقاومة للأورام. قال ايليفي
لوكالة «رويترز» إن «البحث ما زال في مراحله الأولى، لكن من الممكن جدا
أن تكون للبكتيريا والاسفنج استخدامات بيولوجية طبية محتملة بما في ذلك
علاج السرطان. هناك قدر كبير من التحمس العلمي بهذا الشأن».
ومن الاكتشافات الأخرى التي عثر عليها الغواصون الذين يتجولون في تلك
الممرات العميقة المظلمة عظام حيوانات عملاقة تشبه حيوان الكسلان والأرانب
وحتى الماموث وهي كائنات تعود لما قبل آخر عصر جليدي. وقال سام ميتشام
وهو واحد من مكتشفي ما تحت الأرض ومن المدافعين عن البيئة: «عندما
نقول للناس أن هناك أفيالا تحت الأرض يعتقدون أننا فقدنا صوابنا».
وعلى مدى السنوات الثلاثين الماضية ارتفع عدد السكان في منطقة ريفييرا مايا
عشرة أمثال ليصل الى نحو مليون نسمة في الوقت الذي يتدفق فيه السائحون
من الولايات المتحدة وأوروبا والمكسيك على ذلك الشريط الذي تصطف النخيل
على أطرافه. ويقول مدافعون عن البيئة ان هذا التطور الهائل لا يتم تنظيمه
بالشكل الكافي ويحذرون من أن النفايات التي تخلفها الفنادق والمنتجعات في
المنطقة بدأت بالفعل تلوث هذا الكنز الموجود تحت الارض. ويقول ميتشام ان
المجاري تجري في أنابيب تحت الارض وان شبكة مياه واحدة على الاقل في
يوكاتان تلوثت. ولم يتم بعد تقييم أثر 250 طنا من القمامة التي تلقى الى
المقالب يوميا.
كما يقول ايليفي ان مئات السائحين الذين يغوصون يوميا في أي من الفجوات
والكهوف التي لا حصر لها والمتاحة للجميع يدمرون عن دون قصد النظم
البيئية قبل دراستها بشكل كاف. وتابع قائلاً: «تتبع الأسماك الغواصين الى
الكهوف وتأخذ معها كل أشكال الحياة هناك وتصبح الكهوف عقيمة من الناحية
البيولوجية». وأردف قائلا: «عندما نفكر في احتمال أن تقود إلى علاج
للسرطان فمن المحتم علينا حمايتها».