عندما نتحدث عن التدخين بشكل عام نسقط كل المسؤولية
على المدخن باعتبار أن هذه العادة السيئة التي تفتك بالأرواح
بما تسببه من سرطانيات مختلفة كانت اختيارا حرا من قبله
لكن ظاهرة تدخين الطفل أو المراهق تُسقط المجتمع في وضعية
حرجة,لأنهما لازالا في طور النمو الجسمي و النفسي,و سلوكهما تحكمه
الاستجابة للمثيرات و الشروط الاجتماعية,و لازال المحيط يتكفل بتربيتهما
و تنشئتهما و مسؤولا عن تصرفاتهما.لذلك فالنظر إلى أفراد لا يتجاوز أعمارهم
السابعة عشر سنة يتعاطون السجائر تجعلنا إزاء ضحايا تستوجب الإنقاذ
و التوجيه أكثر من اللوم و التهكم,تستوجب حلا فوريا بدل النقد
و ضرورة خلق السؤال "من هو المراهق؟" و "من هو الطفل؟"
إذا توقفنا مع المراهق نجد أن التغيرات الجسدية و الفزيولوجية التي تصاحب
مرحلة المراهقة بما فيها من علامات بلوغ و هرمونات و نضج جنسي
تخلق بعض التوتر في البنية النفسية للمراهق و يصبح أكثر شعورا بذاتيته
و فردانيته,فيحاول الخروج من وضعية كائن مسؤول عنه إلى وضعية كائن
مسؤول عن نفسه,مما يسبب حالة من الصدام و النزاع بينه و بين أفراد
أسرته,من خلال رفضه لأوامرهم و قوانينهم محاولا فرض الرأي و إثبات الذات
و الرغبة في تجريب كثير من الأمور الممنوعة كمصاحبة أشخاص مشبوهين
و مشاهدة القنوات الإباحية و التدخين..
لكن هذه الانفلاتات ليست وليدة التحولات الفزيولوجية بقدرما هي
وليدة التنشئة الأسرية و الاجتماعية التي لا تتفهم تلك التحولات و تؤجج
مسبقا لانحراف السلوك.و هذه بعض الأسباب السوسيوثقافية التي
تساهم في خلق ظاهرة تدخين المراهق
_ بيوت لا تخلو من دخان السجائر=لا يمكن أن يقتنع الطفل أو المراهق
بأن التدخين مضر بالصحة و وسيلة موت و هو يرى والده يدخن,بل هناك من
يدمن هذه العادة بمجرد ترعرعه في بيت يسوده دخان التبغ و باستنشاقه
المتواصل لهذا الدخان المتناثر تعتريه الرغبة الملحة في التدخين
كما أجمعت دراسات نفسية أن الأب يمثل تلك القدوة التي نستبطنها
في مخيلاتنا و نحب تقمصها منذ السنوات الأولى من أعمارنا
ليكون من أكبر أسباب تدخين المراهق الرغبة في تقليد الأب
و أحيانا الأخ الأكبر أو أحد النجوم
_التمثل الخاطئ لمفهوم الرجولة= تروج ثقافتنا الشعبية لصورة مغلوطة للرجولة
لتربط هذه الأخيرة بالذكورة و بخاصية الأفضلية على النساء و صفات القوة
و العنف و حرية الفعل,ليصبح تدخين سيجارة علامة رجولية توحي بالقدرة و التميز
و لفت انتباه الجنس الآخر.و لأن المراهق يحاول دوما أن يثبت للآخرين
اكتمال رجولته يجعل من تلك العلامة مؤشرا لكونه أصبح رجلا و سيد قراراته
و إن عُرض عليه التدخين من قبل أصدقائه قد يقبل فقط لكي لا يتم الاستنقاص
من تلك الرجولة
_ افتقاد الوعي بخصوصية مرحلة المراهقة= الأسرة غالبا ما تفتقد لتلك المعرفة
و الوعي بخصوصية مرحلة المراهقة و حاجاتها و متطلباتها,حيث تكثر رغبات
الفرد و تمسكه بالحياة و المتع.هنا على الأهل أن يباذروا لتحقيق المتعة
لابنهم بالطرق المقبولة و تهييء الأجواء المناسبة للترفيه عن النفس و التفريج عن
طاقاتها المضغوطة,حتى لا يبحث عنها في الطرق الملتوية و يتعطش إليها مع
رفقة مشبوهة تزداد أحاديثهم الساخرة متى تداولت بينهم السجائر
إذن فليحرس الأباء أن تكون لغتهم الوحيدة مع ابنهم هي "ادرس,انجح,
لا تخرج.."لأنه بنية عقلية نعم و لكنه أيضا بنية نفسية و رغبات و غرائز..و إذا
لم يعترفوا له بجوانبه الأخرى سيظن أنها مصدر إحراج و لا تتحقق إلا بالطرق
المحرجة..و سيظن أنه متى أخذته أجواء اللهو و المرح أنه لا يصلح للدراسة
فهذا ما فهمه من مجتمع يعاني الانفصام و يقيم تضادات لا معنى لها
_افتقاد المجتمع للثقافة الجنسية= الحياة الجنسية مع المحلل النفسي
"سيجموند فرويد" تبدأ مع مرحلة الطفولة,لكنها تُقمع بفعل الحضارة و المجتمع
وتعتبر الحاجات الفمية من حاجات الطفل الجنسية التي لم يتم اشباعها
بشكل كلي (الفطام,نزع أصبع الطفل من فمه..) و لأن طاقة الليبدو ترتكز
في الفم أولا فإن حرمان الطفل من الإشباع الفمي الضروري يقود إلى مشاكل
لاحقة عندما يصبح بالغا مثل اكتساب عادات فمية مبالغ فيها كمضغ العلكة
و التسليم باستعمال الفم..و التدخين
على الأهالي هنا أن يكونوا حذرين في التعامل مع المناطق الحساسة للطفل
و أن يتجنبوا آلية القمع
_ المشاكل الأسرية= أباؤنا و أمهاتنا لا يتوادون أمامنا لكنهم و ببساطة
يتشاجرون و يتبادلون العنف الرمزي و المادي في مرأى من عيوننا
و لذلك تأثير جد سلبي على نفسية الطفل و المراهق.و يظهر ذلك التأثير
في شكل توترات نفسية كالإكتئاب و الانطواء حول الذات أو في شكل
انحرافات سلوكية يكون المقصد منها إذاية النفس كالتدخين
كما يعتبر الطلاق من أهم أسباب ضياع الأبناء و تعاطيهم للإدمان
_غياب التربية الدينية و الأخلاقية= الطرق و الأساليب المتوخاة في
تربية النشئ و إعداده تقوم على أمرين اثنين "افعل و لا تفعل" دون أي
توضيح لماذا ينبغي أن نفعل أو ننتهي.فمجتمع قائم على تقاليد ساذجة في
أغلبها و فاقد للمبدأ الموضوعي يعجز عن تمرير حمولة أخلاقية و دمجها
في أفراده فيكتفي أن يمارس عليهم سلطة الأمر
و بالتالي بدل أن يقتنع الطفل بمكارم الخلق من مربييه و يكتسب منهم
الضمير الأخلاقي ليصبح ضميرا داخليا يميز من خلاله بين الخطأ و الصواب
فإنه يحضع لأوامرهم خوفا و ليس اقتناعا,و ما أن يخف هذا الخوف و يزول
مع النمو أكثر و الاقتراب من سن الرشد حتى يتم التملص من تلك الطاعة
و الاندفاع بالذات إلى ما هو غير محمود كاكتساب عادات سيئة من
بينها عادة التدخين
بل حتى كيف تعالج مجتمعاتنا ظواهرها المزرية هو علاج يلزمه علاج
فمثلا في ظاهرة الاغتصاب يعاقبون المغتصبة و يتركون الجاني
و في ظاهرة التدخين يتغاضون عن المشكل الرئيسي الذي هو ادمان
السجائر و أضراره الوخيمة على صحة الإنسان و يلتفون حول الفتاة المدخنة
يستلذون في تعجبهم لها و الحديث عنها بالسوء,و الحقيقة الأخلاقية تقول
أنه لا فرق بين رجل يدخن و امرأة تدخن إن لم تكن حاملا
_صمت الحكومات إزاء ظاهرة التدخين= تتغاضى الدولة عن خطورة ادمان
السجائر و التعامل مع النيكوتين كمادة مخدرة محظورة سعيا وراء حصيلة
الضرائب على التبغ التي تحقق لها دخلا و فيرا على حساب اتلاف الحياة
و إطفاء العقول و الحط من الإرادة الإنسانية و التسبب في أمراض
خطيرة كالسرطان و الربو و الذبحات الصدرية و الجلطات الذماغية..
إنها صناعتها الرابحة التي لا يمكن أن نسميها الا بصناعة الموت
.
.
و مهما كانت هناك من أفكار و سلوكات مغلوطة داخل المجتمع,الا أنه لابد
أن يصادف المراهق أفكارا صحيحة و قدوة حسنة و معرفة مدرسية
موجهة و مرشدة..ليصبح معها و بعدها مسؤولا عن تصرفاته و اختياراته
و إن كان هذا لا يبرئ المحيط الخارجي