لا حولة ولا قوة الا بالله

تعيش
خالتي فطيمة من بلدية بيضاء برج جنوب سطيف في ظلمات ثلاث، الأولى كونها
كفيفة لا ترى ما حولها، والثانية أنها تعيش بمفردها في منزل منعزل،
والثالثة كونها تقطن بمشتة منسية تتموقع في إحدى أفقر البقاع في هذا
البلد، فأي حياة لعجوز تعيش في مستخلص الغربة ولا يكاد يربطها بالحياة إلا
الماء والهواء!؟




لما زرنا الجهة المسماة الكاف الأحمر المتموقعة بين الحدود
السطايفية الباتنية، وجدنا الربوة المنسية التي تقطن بها هذه العجوز،
فتأكدنا حينها بأن في الجزائر مناطق أقل ما يقال عنها أنها قبور واسعة
مفتوحة في الهواء الطلق، يسكنها أحياء من بقايا الأموات، الغني فيهم هو
ذلك الذي ضمن قوت يومه. إنهم أناس تخطاهم الزمن وتكفلهم النسيان، الذي
وجدناه باسطا ذراعيه في بيت خالتي فطيمة، التي بقدر ما أفسدنا عليها
خلوتها، بقدر ما وجدناها مشتاقة للكلام، لأنها منذ مدة لم تخاطب الا
نفسها. المرأة تسكن بمفردها منذ أكثر من عشرين سنة، ولما سألناها عن سنها،
تلعثمت في الإجابة، لان السنوات تشابهت وتراكمت أمامها، فلم تعد تعلم إن
كانت قد تجاوزت الخمسين أو أدركت الستين، بعبارة أخرى المرأة قاطعت تعداد
الوقت، لان الليل والنهار عندها سيان .


لما استوقفنا معها الزمن، راحت تحكي بأنها في السابق كانت تعيش
رفقة أفراد عائلتها، لكن أغلبيتهم قضوا نحبهم، ولم يبق لها إلا شقيق
غادرها، بعدما زاد في شقائها، حيث كانت في الصبا تبصر، وبعد خلاف حاد مع
أخيها ضربها بحجر فأصابها على مستوى العين ففقدت البصر نهائيا، بعدما
تأثرت عينها الثانية من الإصابة. ومن يومها لم تعد تعرف من هذا العالم إلا
السواد الدامس. والغريب أنها تعيش بمفردها وتتدبر أمرها بنفسها رفقة عائلة
من نوع آخر، تتكون من ثلاث دجاجات وديك وثلاث عنزات نحيفات، كل هؤلاء
مجتمعون في كوخ مكون من غرفتين وفناء. هذا هو العالم بالنسبة لخالتي
فطيمة، محصور في هذه المخلوقات التي لها معها علاقة حميمية وليس لها أنيس
سواها. يوميات العجوز تنحصر في ممارسة هواية الجلوس، وما أطولها في هذه
المسكن المعزول، فكلما استيقظت تتقد دجاجاتها وعنزاتها، ثم تركن الى زاوية
لدى الباب، لا تكاد تبرحها طيلة النهار. والأغرب في حياة هذه المرأة
الكفيفة أنها بلا عائل، وليس لها أي مدخول، وفي السابق كان الطعام يأتيها
من معلم محسن اعتاد على زيارتها دوريا، لكنه اختفى عن الأنظار منذ أكثر من
شهر، فتحولت المهمة الى الجيران الذي يقطنون ببيت يبعد عنها بحوالي 300
متر. لكن الشيء المفزع في حياة هذه المرأة، انه إذا غفل عنها الجيران أو
غابوا تبقى بلا طعام لعدة أيام، وتؤكد لنا خالتي فطيمة أنها في بعض
الأحيان تبقى لمدة خمسة أيام كاملة دون أن تتذوق الطعام، لأنها لا تجد ما
تأكل، وتكتفي بشرب الماء، وحتى الماء لها معه حكاية، فالمنطقة تتميز بالحر الشديد في الصيف، وهي لا تملك ثلاجة، ولذلك لما سألناها ماذا تبغي؟ قالت إني أريد فقط جرعة ماء بارد. فمن حسن الحظ الكهرباء متوفرة، لكن جهاز التبريد غير موجود.


ولما سألناها كيف تتصرف اذا أصيبت بداء؟ تقول إنها إذا مرضت تغلق
باب البيت وتخلد الى النوم حتى يشفيها الله. وأما عن المال فتقول خالتي
فطيمة: لا حاجة لي به، ومنذ مدة لم أستعمل النقود ولم أرها، لأنني لا أخرج
من بيتي ولا ابتعد عنه إلا لبضع أمتار.


لما
هممنا ببترك خالتي فطيمة ذرفت الدموع بعدما أيقنت أنها عادت الى وحدتها،
فودعتنا بأمنية غريبة، حيث قالت أتمنى أن أجد كلبا أربيه على الأقل، إذا
مت يطلع الناس بان هناك جثة في هذا الكوخ، فيقوموا بدفنها. بهذا الكلام
غادرنا المكان، فانسحبنا في صمت، وانخرطت هي من جديد في ظلماتها الثلاث.

نقلا عن الشروق اليومي 21/092012