في كل يوم يسقط فيه الشهداء وضحايا القنص على أرض الشام، تتعالى
زغاريد النساء وصيحات الآباء والأبناء "لن نركع إلا لله"، في صورة درامية
تزيد يوما بعد آخر إصرار السوريين على الحرية والمطالبة بإعدام من يتسبب في
قتل المدنيين العزل تحت مسمى "القضاء على العصابات الخارجة عن القانون". كانت الساعة تشير إلى الثانية عشرة ظهرا، عندما رجت مدينة "إدلب" بتكبيرات الرجال وزغاريد النساء، حينما أحضروا جثمان الطفل "محمد
الشاوي" المنحدر من أب جزائري أصوله من ولاية أم البواقي، الذي سقط قبل
يوم برصاص لقناصة الجيش السوري النظامي على أطراف مدينة "إدلب" المحاصرة، إلى الحارة الشمالية وسط المدينة.
الخوف من القنص والقتل لم يمنع الناس في هذه المدينة من الخروج
إلى الشوارع لتشييع جثامين الشهداء التي تسقط يوميا، لتضاف إلى قائمة
مفتوحة لا يعتقد السوريون أنها ستقفل عما قريب، خاصة مع مواقف بعض الدول
العربية والكبرى بوقوف موقف المتفرج على المجازر التي تراق فيها دماء المدنيين.
بين لحظه وأخرى، كانت شعارات ساخطة تدوي بها حناجر مئات المشيعين "يا أمي لا تهتمي، ابنك في الجنة ينادي" و"لا إله إلا الله والشهيد حبيب الله" و"بالملايين على الجنة رايحين"، ليهمس مرافقنا الجديد "مرة أنتي كالعلقم يا إدلب في حلق من يريد اختطاف أرواحنا"، انتابني شعور غريب عند تشييع الجنازة، وفجأة تقدم أطفال صغار لم يتجاوز سنهم العاشرة من العمر موكب الجنازة.
منظر، لا يستطيع إنسان أن يبقى مجردا من الأحاسيس، دون أن يشعر بآلام الناس ومآسيهم اليومية، فضلا عن أن يكون واجه عناء التنقل لآلاف الكيلومترات من أجل الوقوف على معاناتهم.
أطفال في مقدمة المشيعين لجثمان صديق لهم، يتحدون لغة الرصاص
والقتل للبراءة، كانوا صوتا واحدا يتقدمهم طفل يعلو صوته في حارات وشوارع
وسط المدينة، التي أصبحت كل يوم يعلن فيها عن وداع العشرات من أبنائها.
القناصة في مواجهة جنائز الشهداءمع تواجدنا في شوارع المدينة، رفقة المشيعين، كان خطر تعرض كل
الجنازة لإطلاق النار من القناصة أو القصف المدفعي احتمال كبير جدا، خاصة
مع التوافد الكبير للمشاركين في تشييع الجنازة، لذلك قرر أفراد "جيش
التحرير" نقل جثمان الشهيد على متن سيارة خاصة، لتفادي التجمع في الطريق وسقوط المزيد من الضحايا والشهداء.
كل دقيقة تمر، كان يمكن أن تجعل منا أرقاما في ضحايا العنف وموكب
شهداء الحرية، كانت تعني احتمال مواجهتنا رفقة المدنيين لرصاص القناصة
والفروع الأمنية الأخرى من أمن الدولة والأمن العسكري، والجوي وغيرها من
الأجهزة الأمنية التي تمركز أعوانها على أسطح البنايات بأطراف أحياء المدينة.
كان مرافقنا يقدم لنا النصائح الأمنية بعدم الخروج عن وسط جموع
المشيعين حتى لا يستطيع أعوان النظام رصدنا، لأن ذلك يعني خطر الموت الأكيد
والإصابة القاتلة، خاصة بعد ما أكده لي مجموعة من الثوار من "جيش التحرير"
بعلم النظام بتواجدنا في وسط المدينة، الشيء الذي يحتم علينا أخذ أكبر درجات الحيطة والحذر.
سيارات المشيعين تفرقت واحدة بعد أخرى، آخذة طرقا فرعية ومسالك
ترابية، للوصول إلى المقبرة، كانت سيارتنا من بين الأولى التي دخلت
المقبرة، أين كان على أطرافها مجموعة من المدنيين من أبناء الأحياء
المجاورة جاءوا لتأمين قدوم موكب المشيعين للشهيد، سأل مرافقنا الأشخاص "هل
من حركة مريبة في المنطقة؟"، ليتلقى جوابا بالنفي وأنهم قد قاموا بتمشيط
المزارع المحيطة بالمقبرة العديد من المرات، وفي دقائق معدودات تم مواراة
جثمان "الشهيد محمد الشاوي" ذي السادسة عشر من العمر إلى مثواه الأخير،
مخلفا وراءه أسئلة كثيرة كغيره ممن سبقه من الشهداء والقتلى، تطرحها أمهاتهم "لماذا خطفتم أرواح أبنائنا بغير حق؟".
نساء يقسمن على حمل السلاح للدفاع عن الأعراض والأرواحبعد فراغ المشيعين من الدفن، قال لي مرافقنا، هل نعرج على منزل "أم
الثوار" لنتناول شيئا ونستريح، أجبته مستغربا عن الرمق الذي يستطيع أن
يستسيغ اللقمة في مثل هذه الظروف، ليجيب "لقد قتل نظام بشار فينا الأحاسيس
والمشاعر حتى أصبح الموت والحياة شيئا واحدا"، ويضيف "لا أبالي إن مت أو عشت، فهما سيان عندي وعند الكثير من سكان هذه المدينة وغيرها، لكن ما ذنب الأطفال أن ييتموا، وما ذنب الأمهات أن يثكلن وما ذنب الزوجات أن يرملن".
يأخذ نفسا عميقا ليقول "لا تثِر فيَّ مواجع الآلام والآهات"،
دخلنا منزلا في حي "البوعة" الذي هجره ما يزيد عن 40 ألف نسمة، كونه تعرض
لهجمة شرسة من القصف العنيف بدبابات وصواريخ "الكاتيوشا"،
بعد أن استأذن لنا مرافقنا ــ الذي رفض الكشف عن اسمه، كونه غير معروف لدى
الأجهزة الأمنية ويتنقل بين المدن الثائرة ــ لنقابل عجوزا في الستين من
العمر اسمها الخالة "سميحة خاشان"، تحكي قصتها أنها قدمت أربعا من أبنائها
وفلذات أكبادها، تقول الخالة سميحة "الله ينتقم من بشار، أخذ فلذات أكبادي،
لكن حسبي أنهم في الجنة إن شاء الله عند رب العالمين، أحتسبهم عنده فلا
أحد فوقه"، تصمت قليلا لتقول "والله لن نرجع إلى نقطة البدء، فمن تبق من
أولادي وبناتي فداء ديني وعرضي ووطني، لو تطلب الأمر ستحمل النساء السلاح
في وجه من استباح الأعراض من الصفويين المجوس".
جمعة أصدقاء سوريا في تونس كانت بالقصف والقنص على المدنيين في "إدلب"انقضى يوم الخميس، ونحن ننتظر ما سيحمله صباح الجمعة من أحداث،
خاصة مع ما سمعنا من احتمال تعرض المدينة إلى قصف عنيف أو اجتياح بري. يوم
الجمعة كان يوما مشهودا بعد الفراغ من انتهاء الظهيرة، جموع غفيرة خرجت من
كل مساجد المدينة باتجاه ساحة الحرية، التي هتف فيها المتظاهرون تحية احترام للشعوب العربية على غرار الشعب الجزائري والتونسي والمغربي والليبي والمصري والقطري والسعودي.
ما هي إلا دقائق من بداية ترديد صيحات الله أكبر، حتى كان صوت
طلقات القناصة يصل إلى الجموع، وبعدها بدأ البعض يسقط، مما حول هذه
المظاهرة إلى مذبحة سقط فيها شهدا وجرحى نقلوا إلى مستشفى الهلال الأحمر
وسط المدينة ومشفى المجد.
بدأت ساعة الحسم، يقول الإدلبيون، فعلا، شعرت خلالها أن الوضع
سيشهد تصعيدا خطيرا، خاصة مع زيادة نزوح المئات من العائلات التي اكتظت بهم
شوارع وطرق إدلب باتجاه المخابئ والملاجئ الآمنة، في حين فضل البعض الآخر
اللجوء إلى المساجد ودور العبادة، كانت كاميرا "الشروق" حاضرة في كل هذه الأحداث.
قذائف المدفعية سقطت على مقربة مائة متر من مكان تواجدنا، لم
تتوقف إلا بعد دمار كبير ألحقته بمنازل وبنايات للمدنيين، خاصة مع حلول
الليل وبداية سدول الظلام، ليخلف في حصيلة أولية تلقيناها من المستشفيات
التي استقبلت الضحايا، أربعة شهداء من مختلف الأعمار، بعضهم سقط بشظايا القذائف المدفعية والبعض الآخر سقط برصاص القناصة، وأزيد من عشرين جريحا، في حين لا يعلم عدد المنازل المقصوفة والمهدمة.
لااااااااااااااااااااااااااا حولة ولا قوة الا بالله
اللهم انصر اخواننا في سوريااااااا والعرااااااااااااق وفلسطين وكل مكااااااااان يا رب الاكوان