أمسية عائلية

دخلت البيت بعد يوم متعب، فاستقبلتني رائحة القهوة وهي تجول في الفضاء تبعث نشوة غريبة في النفس وتوجهت مباشرة إلى المطبخ لأجد أُمّي قد أعدت الصينية وتنتظر قدومي. جلست قربها أمام المائدة وشعرت بسعادة غامرة، وأنا أرقبها تصب لي فنجاناً من القهوة، ولذة كبيرة وأنا أرتشفها على مهل، وأستمع إلى أحاديثها، فنسيت ما كان في يومي، وسبحت في أجواء هذه الجلسة الحميمة مع أحب الناس إلى قلبي وأقربهم إلى نفسي وأعلمهم – بين الخلق كلهم – بما يجول في أعماقي الدفينة.
وأمعنت النظر إلى ملامحها، إنّها امرأة جاوزت الستين بقليل، لا تزال تحتفظ بحيوتها برغم التجاعيد التي ظهرت في مواضع متفرقة من وجهها والشيب الذي غزا شعرها. نظرت في عينيها، فإذا بهما نبع لا ينضب، ونور لا يخفت، ودفء لا يبرد!!.
وأعجب من سذاجة أُمّي، وكأنّها طفلة لم يتغير منها إلا سنوات بقائها على الأرض وما شهدته من أحداث، في حين بقي قلبها ينبض نبضات الطفولة البريئة، ربّما هو شأن كل أُم في البيت تطبخ وتغسل وتنظف من أجلنا نحن أطفالها، لقد باعت عمرها؛ لتشتري راحتنا عن طيب خاطر ورضى كامل، وما أسعدها حين ترانا سعداء!!... دخل أخي "عادل" ذو الثمانية عشر ربيعاً، صفق الباب وراءه، وأقبل بوجه متجهم كأنّه يحمل هموم الدنيا على كتفيه، قالت أُمّي بحنو كبير:
"ما بك؟!... تبدو غاضباً..".
فقال بحنق شديد:
"لا شيء..".
"أتريد كوباً من الحليب؟".
"لا أريد..".
وصمت كأنّه بركان على وشك الإنفجار، ولم تطق أُمّي أن تراه على هذه الحال، فقالت:
"لماذا لا تحدثني عما بك، إنني أُمّك أتخفي عني أموراً لا أعلمها؟!..".
صرخ في وجهها، قائلاً:
"اتركيني وشأني ولا تسأليني عما بي..".
وخرج كما دخل لا يطيق نفسه، وآلمتني أُمّي، وهي تتبعه بنظرات حزينة، وتقول:
"لا أدري ماذا جري لإخوتك؟!... إنّهم يتغيرون بشكل مفاجئ ومخيف، لم أعد أفهمهم، ولا أفهم ما يريدون".
فقلت لهاأطمئنها:
"ليست هي حال إخوتي فقط، بل حال جيل اليوم، حيث لا يعرفون ما يريدونه!!..".
وخرج "فؤاد" ذو الثلاثين ربيعاً من غرفته يتثاءب ويتمطى، فهو يقضي نصف يومه في النوم والنصف الآخر يشاهد ما يعرض في مختلف قنوات (التليفزيون) وإن سئم من الاثنين خرج ينضم إلى أصدقائه في المقاهي يعيدون نفس كلمات التذمر والشكوى والملل، وربّما جابوا شوارع المدينة كلها جيئة وذهاباً، فهو – كغيره من أصحابه – لم يستطع الحصول على عمل برغم أنّه يحمل شهادة جامعية، وما بذله من جهد لم يثمر شيئاً غير بقائه في قائمة البطالين.
انضم إلى مائدتنا وأخذ يحتسي فنجاناً من القهوة، فسألته بمرارة:
"أليس هناك من جديد؟".
فقال ضاحكاً:
"لا جديد يذكر، ولا قديم يستحق الذكر".
فقالت أُمّي:
"توكل على الله يا بني، ولا تتوقف عن السعي، وسيأتي الفرج بإذن الله".
"السعي؟!... إنّك تعرفين جيِّداً أني لم أترك مكاناً إلا ووضعت فيه ملفاً، ولكن دون جدوى".
فقالت تترجاه:
"حاول مرّة أخرى، لقد مضت ست سنوات على تخرجك، ولا عمل لديك، حتى مصروفك اليومي تأخذه من والدك، فمتى تعمل وتتزوج وتفتح بيتاً؟!!..".
فقال، وإبتسامة ساخرة على شفتيه:
"ما عساي أفعل؟! ظروف الحياة تجبرنا على الزواج، ونحن على أعتاب الأربعين!!..".
فأكملت ضاحكة:
"والفتاة بعد سن الثلاثين... إن وجدت من يتزوجها!!!..".
دخل أخي الأكبر "جمال" وآثار (الطبشور) على وجهه، يعمل مدرساً منذ سنوات ولم يتزوج إلا بعد أن قارب الأربعين، انتظر طويلاً؛ عله يحصل على سكن خاص، فلما يئس تزوج وأقام معنا في إنتظار أن يجد بيتاً يستأجره، فنحن عائلة كبيرة والكثافة السكانية ارتفعت منذ زواجه وإنجابه لطفلين.
جلس معنا يقاسمنا جلستنا، كان يبدو مرهقاً حزيناً شاحب الوجه، ولم يعد "جمال" المرح الذي لا يتوقف عن الضحك، أصبح جديّاً وزادته المشكلات وقاراً، كما أنبتت المسؤولية شعيرات بيضاً انتشرت بسرعة اللهب بين شعره الأسود. سألته أُمّي:
"هل ستمكث زوجتك طويلاً عند أهلها"؟!
فرد بعبوس:
"بضعة أيام..".
"ولماذا أنت حزين؟!..".
"بل قولي: لِمَ لا أحزن؟!... المطالب كثيرة وما أتقاضاه من أجر لا يكفي، ولا يمكنني ادخار دينار واحد، بل على العكس الديون تثقل كاهلي ومسؤولية الأطفال تؤرقني ويتملكني الهلع كلما فكرت في المستقبل".
ربتت أُمّي على كتفه، وقالت:
"اصبر يا بني، وسيأتي الفرج بإذن الله".
فثارت ثورته، وقال غاضباً:
"تعتقدين الأمر سهلاً.. إني لا أستطيع الصبر، بل أكاد أجن..".
وصمت يفكر، ثمّ واصل قائلاً:
"ليتني لم أتزوج، ولم أنجب أطفالاً يخنقون أنفاسي بمسؤولياتهم الثقيلة".
لم نستطع التخفيف عنه، وهو يشكو دوماً من فاقته، ولا يكف عن القول: إنّ أجر التعليم لا يحيي ولا يميت!!...
عاد عادل وتوجه مباشرة إلى غرفته، حيث وصلنا صوت المسجل يصدح بموسيقى غريبة صاخبة، ذهب إليه فؤاد، وطلب منه أن ينقص الصوت، لكنه أبى، وأوشكا أن يتشاجرا لولا تدخل أُمّي بغلق الراديو وإخراجهم من الغرفة، وبقي عادل يرغي ويزبد كأنّه الريح العاصفة، ثمّ خرج مرّة أخرى، فعمّ البيت هدوء غريب.
سألتني أُمّي:
"ألا تعرفين ما به؟!..".
فقلت:
"إنّها المراهقة!!..".
"المراهقة!!... وما هي؟!..".
"مرحلة من العمر يمرّ بها الفتى يكون فيها مرهف الإحساس، متقلب المزاج ثائر العواطف، كثير المطالب، سريع الغضب..".
فقاطعتني، قائلة:
"مثل عادل؟!..".
"نعم... هذا أوان المراهقة، منعطف خطير بين طفولة ذاهبة ورجولة قادمة، لذلك لابدّ من اللين في المعاملة ومحاولة تفهمه؛ حتى تمر بسلام..".
أرهفت أُمّي السمع تطلب مزيداً عن هذه المراهقة التي لم تسمع عنها من قبل، فلما انتهيت من الشرح قالت، وهي لا تزال مشدوهة:
"ولماذا لم نعرف المراهقة نحن؟!... ألم نكن بشراً مثلكم؟!..".
وبينما أخذت أستجمع ذكائي لإجابتها أكملت، قائلة:
"كنّا نعيش حياة بسيطة وسهلة بمطالب يسيرة، وبرغم أنّنا كنا نقيم في بيوت صغيرة ونرتدي لباساً ساذجاً، ونأكل ما يسكت جوعنا إلا أننا كنا سعداء حقّاً في طفولتنا وشبابنا، وعندما تزوجنا تحملنا مسؤولية تربية أطفالنا بصدر رحب، ولم نضق بهم برغم فقرنا.. أمّا الآن فالأعزب كالمتزوج، والصغير كالكبير، والعامل كالعاطل، والفتى كالفتاة، كلهم يشتكون ويتذمرون!!.. يا لغرابة هذا الزمان وأهله!!..".
وبينما نحن جالسون، دخلت أختي الجامعية "تتأبط كتبها، ألقتها على الأريكة، ثمّ أتبعتها بجسدها النحيل، وقالت:
"أشم رائحة قهوة لذيذة، ألا تصبون لي فنجاناً منها؟".
هممت بالنهوض فسبقتني أُمّي، وأسرعت بتحضير أخرى وضعتها أمامها، وهي تقول مبتسمة:
"كيف حال الدراسة اليوم؟..".
ردت، وهي تداعب شعرها الطويل بأناملها الرقيقة:
"لم ندرس اليوم، الأساتذة في إضراب".
فحدجتها أُمّي بنظرة غاضبة ، وقالت:
"وأين كنت طوال اليوم؟!... لماذا لم تعودي؛ لتساعديني في أعمال البيت الكثيرة؟!..".
لم تأبه هند لكلامها، وقالت وهي ترتشف قهوتها:
"قضيت اليوم كله مع صديقاتي في المكتبة نحضر البحوث، فالإمتحانات على الأبواب".
نظرت إلى أختي، وكأنني آراها لأوّل مرّة... هي تبذل كل شيء لإظهار جمالها خاصة بعد دخولها الجامعة، فإذا ناقشها أحد في الأمر قالت:
"هكذا ترتدي بنات اليوم في الجامعة ولا أريد أن أبدو سخيفة وريفية بينهن!!..".
فإذا سألناها هل الجامعة للعلم والتعلم أم لأشياء أخرى؟! ردت بجرأة:
"هي للعلم طبعاً، لكنها أيضاً للأشياء الأخرى!!..".
قلت لها، وأنا لا أرفع بصري عنها:
"إنّه عامك الأخير بالجامعة وأرى دخولك إليها كخروجك منها لم يضف شيئاً لحياتك سوى الإهتمام المبالغ بزيك وهندامك، أمّا عقلك فقد توقف عن التفكير منذ أمد... ألم يئن الأوان لتحاسبي نفسك؟!!..".
فقالت، وهي لا تزال تعبث بشعرها الطويل:
"سأحاسب نفسي، وفي هذا العام بالذات!!!..".
ارتسمت على وجهي إبتسامة الفرح، لكنها تضاءلت حين أكملت تقول:
"إذا لم أخرج بشهادة جامعية وزوج وسيم!!!..".
وضحكت لخيبة أملي بجوابها، ثمّ أردفت:
"هذا هو القانون المعمول به في الجامعة عند أغلب الطالبات وأنا أحرص منهنّ على تطبيقه!!..".
في هذه الأثناء دخلت أختي "سعاد" و"حياة" تحملان "أيمن" الصغير، جلستا على أقرب أريكة، ولم تصبر أُمّي، فبادرتهما بالسؤال:
"ماذا حدث بالمحكمة؟!... هل جد جديد؟!..".
فقالت حياة، وهي تمسح العرق المتصبب على جبينها:
"أجبرته المحكمة على دفع نفقة الطفل وطالبته بدفع مبلغ مالي جزاء تأخره في القيام بواجبه..".
وصمتت، ثمّ أضافت تقول:
"الجبان الحقير، اعتقد أنّه سيطلقني، ويبدأ حياته من جديد، متناسياً أنّ له ابناً معي..".
فقالت هند معقبة:
"بالطبع، يجب أن ينسى ابنه مادام قد عاود الزواج ويعيش سعيداً".
اختفت أُمّي، ثمّ ظهرت تحمل إبريق القهوة في يدها، وقالت مبتسمة:
"الحمد لله أن حكمت المحكمة لصالحك، فنحن لا نطلب منه أكثر من أن يقوم بواجبه".
فقالت حياة غاضبة:
"يا له من واجب يسير، أن يدفع دنانير قليلة لا تكفي لغذاء الطفل، فكيف بلباسه ودوائه؟!... وماذا عن تربيته والإعتناء به، كل هذا يقع على كاهلي أنا وحدي، أمّا هو فهناك ينعم بزوجته الجديدة..".
وخرجت من الغرفة تبكي حظها التعيس، فغشي الغرفة صمت رهيب، قطعه صوت أيمن وهو يبكي، إذافتقد أُمّه، فحملته جدته وأخذت تلاعبه وتناغيه حتى سكت عن البكاء، وسكن إليها يبغي النوم، تنهدت سعاد بصوت مسموع، فقالت أُمّي:
"وماذا عنك أنت؟!... هيا أفرغي ما بصدرك..".
قالت سعاد دون مقدمات:
"قضيت معظم النهار أبحث عن عمل في مختلف الشركات والإدارات بلا فائدة، لقد سئمت المكوث في البيت والعمل طوال اليوم كخادمة!!..".
همت أُمّي بالرد عليها، فأسرعت هند تقول باستهزاء:
"إذا كان فؤاد بشهادته الجامعية لم يجد عملاً حتى الآن، فما بالك أنت ولم تقطعي في التعليم إلا شوطاً قصيراً..".
رمقتها سعاد بنظرات غاضبة، وتبادلتا كلمات جارحة، وأوشكتا أن تتشاجرا لولا تدخل أُمّي التي قالت توبخ سعاد:
"لا أدري لماذا تعيّدين نفسك خادمة، حين تساعدينني في أعمال البيت؟... ولا أفهم لِمَ كل هذا الحرص على العمل خارج المنزل؟!!..".
فاعترضت سعاد، صارخة:
"ومَن يشتري لي ما أحتاجه؟!... أبي براتبه الضئيل الذي لا يسد احتياجات البيت؟، أم أخي العاجز عن إعالة أسرته الصغيرة؟!"..
بعد تناول طعام العشاء، جلست أُمّي بجانب أبي، وكعادتها بدأت تنقل له هموم إخوتي الكثيرة بتفاصيلها المثيرة، كان مشغولاً بمتابعة نشرة الأخبار، فلما أتت على نهايتها نهض دون أن ينبس بكلمة، فلما أمسكت بيده محاولة إبقاءه لمناقشة أمر أولاده، دفعها بقوة قائلاً:
"دعيني أذهب للنوم، فأنا متعب، ولا أقوى على الكلام، اتركيني وشأني..".
ودخل غرفته، وأغلق الباب وراءه، ولحظات فقط بدأ شخيره يخترق الجدران معلناً عن نومه!!!... أوى كل فرد من أفراد أسرتي إلى مخدعه، مستسلماً لأفكاره وهمومه، بينما بقيت أُمّي في غرفة الإستقبال تنظر إلى التلفاز ولا ترى شيئاً، كان ذهنها مشغولاً بما آل إليه أطفالها الصغار. فاجأتها بمقدمي، جلست بقربها أمعن النظر في عينيها وسط هدوء الليل وسكونه. همست، والدمع يتلألأ في عينيها:
"ظننت أنني سأرتاح عندما يكبر إخوتك، لكنني مخطئة، فمع كبرهم ازدادت همومهم وتعقدت مشكلاتهم، ولا أعتقدني سأرتاح من عبئهم".
فقلت أداعب شعرها الذي خضبته بالحناء؛ لإخفاء بياضه:
"لست وحدك من يعاني، بل كل أُمّهات الدنيا... وبيتنا الصغير صورة لما يتفاعل في المجتمع الكبير".
وقرأت في عينيها قلقاً وإضطراباً، فقلت أمازحها:
"لا تحملي همّاً أُمّي... فلكل مشكل حل، فقط لا تحرمينا حبك وحنانك، ولا تنسينا في دعائك؛ عسى أن يحفظنا الله ويجعل من بعد عسر يسراً..".
ضمتني إلى صدرها، وقالت مبتسمة إبتسامتها الساحرة:
"أنت نور عيني في هذا البيت، ولا أدري ماذا سيحصل لي إذا تركتني، كلهم يتذمرون ويشتكون إلا أنت، وحدك تستمعين إليّ وتشعرينني بالأمان".
ولم أتركها حتى ذهبت لمخدعها مطمئنة، فلما تيقنت من نومها، مكثت بمفردي أفكر في مشكلات بيتنا التي لا تنتهي، ولم أتحمل ضغط الأيام وقلق أُمّي المتزايد، فأطلقت العنان لدموعي تهبط على خدي في صمت.