أثر الطاعات والمعاصي في الخلوة على العبد
الطاعة والمعصية في الخلوة لها أثرها على العبد في دينه وفي صيته بين الناس, ولا بد أن يظهر ذلك على العبد, وكما قال بعض السلف: " ما أسر عبد سريرة إلا أظهرها الله على قسمات وجهه أو فلتات لسانه". وقال آخر: " ما أسر عبد سريرة إلا كساه الله رداءها إن خيرًا فخير وإن شرًا فشر "
وقال سليمان التيمي رحمه الله : " إن الرجل ليصيب الذنب في السر فيصبح وعليه مذلته "[1] وقال غيره : " إن العبد ليذنب الذنب فيما بينه وبين الله ثم يجيء إلى إخوانه فيرون أثر ذلك عليه " وقال ذا النون: " من خان الله في السر هتك الله سره في العلانية "[2]
ويقول العلامة ابن الجوزي رحمه الله تعالى: " وقد يُخفي الإنسان ما لا يرضاه الله عزوجل فيظهره الله عليه ولو بعد حين وينطق الألسنة به , وإن لم يشاهده الناس وربما أوقع صاحبه في آفة يفضحه بها بين الخلق, فيكون جوابًا لكل ما أخفى من الذنوب وذلك ليعلم الناس أن هناك من يجازي عن الزلل ولا ينفع من قدره وقدرته حجاب ولا استتار ولا يضاع لديه عمل "[3]
وهذا كلام متين من ابن الجوزي رحمه الله وكم لرأينا ممن وقع منه ذلك ولكن من يعتبر ويتعظ.
ويشتد الخطب ويعظم إذا كان الذي يخرق حرمات الله في الخلوات ممن ينتسب إلى العلم فهذا حسابه عسير وتأثير الذنوب في الخلوات لابد أن ينعكس على ذكره في الدنيا بين الناس.
قال أبو الدرداء رضي الله عنه : " إن العبد ليخلو بمعصية الله تعالى فيلقي الله بغضه في قلوب المؤمنين من حيث لا يشعر "[4]
وهذا الذي قاله أبو الدرداء رضي الله عنه يؤيده قول النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله إذا أحب عبدًا نادى في السماء ......" الحديث " فيه يوضع القبول في الأرض " [5] وهذا القبول من أثر محبة الله تعالى لهذا العبد الذي التزم حدود الله في الجلوات والخلوات وأما العبد الآخر فقد ذُكر في الحديث " ثم تُضع له البغضاء في الأرض " فأيما ولى وذهب فإن قلوب الخلق تلعنه وهذا من أثر بغض الله وسخطه عليه .
ويبين لنا ابن اجوزي رحمه الله صنفًا ممن ينتسبون إلى العلم وقد أهملوا نظر الحق عزوجل في الخلوات فيقول: " رأيت أقوامًا ممن ينتسبون إلى العلم أهملوا نظر الحق عزوجل إليهم في الخلوات فمحا محاسن ذكرهم في الجلوات فكانوا موجودين كالمعدومين لا حلاوة لرؤيتهم ولا قلب يحن إلى لقائهم "[6]
وهذا الصنف الذي ذكره ابن الجوزي هم في الحقيقة يتمسكون بصورة العلم لا حقيقته فإنهم لو تمسكوا بحقيقة العلم لأثر العلم عليهم وجعلهم يخشون الله في السر والعلانية وربما اغتر أحدهم بحلم الله تعالى وإمهاله له ولكن في الإمهال له حكم وفي الحلم عنه فوق ما لا نعلمه إنما يعلمه الله تعالى والناس لهم الظاهر والله تعالى يتولى السرائر فإذا قضى الله على أحدهم بالعقوبة بين الناس ربما خفى سبب العقوبة عليهم فيقول قائلهم فلان من أهل الخير فما وجه ما جرى له ؟
فقول القدر:" حدود الذنوب خفية صار استيفاؤها ظاهرًا فسبحان من ظهر حتى لا خفاء به , واستتر حتى كأنه لا يعرف وأهمل حتى طمع في مسامحته , وناقش حتى تحيرت العقول في مؤاخذته لا حول ولا قوة إلا بالله فلا تغتر بستره أيها العاصي فربما تجذب من عورتك "[7]
ومما هو مشاهد أن من أجّل الله في الخلوة أجله الله في الجلوة والخلوة وما أجمل الطاعة وما أحلى أثرها وما أقبح المعصية وما أشد قبحها لا سيما ممن تعمدها. قال ابن عباس رضي الله عنه : " إن للحسنة ضياء في الوجه ونورًا في القلب, وقوة في البدن , وسعة في الرزق , ومحبة في قلوب الخلق , وإن للسيئة سوادًا في الوجه , وظلمة في القلب , وهنًا في البدن ونقصًا في الرزق , وبغضة في قلوب الخلق "[8]
وسبق لنا أن ذكرنا قول بعض السلف " ما عمل رجلًا عملًا إلا ألبسه الله تعالى رداءه إن خيرًا فخير و إن شرًا فشر " ويعلق ابن القيم رحمه الله تعال على هذا القول فيقول : " وهذا أمر معلوم يشترك فيه وفي العلم به أصحاب البصائر وغيرهم حتى إن الرجل الطيب البر لتشم منه رائحة طيبة , وإن لم يمس طيبًا , فيظهر طيب رائحة روحه على بدنه وثيابه , والفاجر بالعكس والمزكوم الذي أصابه الهواء لا يشم لا هذا ولا هذا بل زكامه يحمله على إنكار " [9]
إن صلاح السرية أصل كل قبول وقد أشار إلى ذلك ابن الجوزي رحمه الله وضرب لنا أمثلة من واقعه حيث قال : " والله لقد رأيت من يكثر الصلاة والصوم والصمت ويتخشع في نفسه ولباسه والقلوب تنبو عنه , وقدره في النفوس ليس بذاك , ورأيت من يلبس فاخر الثياب وليس له كبير نفل ولا تخشع , والقلوب تتهافت على لحيته فتدبرت السبب فوجدته السريرة "
كما روى عن أنس بن مالك : " أنه لم يكن له كبير عمل ولا صلاة ولا صوم وإنما كانت له سريرة فمن أصح سريته فاح عبير فضله , وعبقت القلوب بنشر طيبه , فالله الله في السرائر فإنه ما ينفع مع فسادها صلاح الظاهر " [10]
قلت وقد رأينا والله مثلما رأى ابن الجوزي رحمه الله و المقصود أن صلاح السريرة وحفظ الخلوة من الأمور التي ينبغي أن يتفطن لها العبد دائمًا ومن عرف العقاب ترك المشتهى وآثر الآخرة على الدنيا وطوبى لعبد آثر الحياء من الله على الحياء من الناس . فإذا عرض له داعي الهوى في الخلوة ونازعته نفسه إلى المشتهى الحرام في خلوته ثم تذكر عقاب الله ووقع تعظيم الله في قلبه فترك ما اشتهت نفسه من المحرم فجدير به أن يكون من المحسنين .
" فكم من مؤمن بالله عزوجل يحترمه عند الخلوات فيترك ما يشتهي حذرًا من عقابه أو رجاء ثوابه , أو إجلالا له فيكون بذلك الفعل كأنه طرح عودًا هنديًا على مجمر فيفوح طيبه فيستنشقه الخلائق ولا يدرون أين هو وعلى قدر المجاهدة في ترك ما يهوى تقوى محبته , أو على مقدار زيادة دفع ذلك المحبوب المتروك يزيد الطيب ويتفاوت تفاوت العود .
فترى عيون الخلق تعظم هذا الشخص و ألسنتهم تمدحه ولا يعرفون لما, ولا يقدرون على وصفه لبعدهم عن حقيقة معرفته, وقد تمتد هذه الأراييح بعد الموت على قدرها فمنهم من يذكر بالخير مدة مديدة ثم ينسى, ومنهم من يذكر مائة سنة ثم يخفى ذكره وقبره , ومنهم أعلام يبقى ذكرهم أبدًا وعلى عكي هذا من هاب الخلق , ولم يحترم خلوته بالحق فإنه على قدر مبارزته بالذنوب وعلى قدر مقادير تلك الذنوب يفوح منه ريح الكراهة , فتمقته القلوب , فإن قل مقدار ما جنى قل ذكر الألسن له بالخير , وبقي مجرد تعظيمه , وإن كثر كان قصارى الأمر سكوت الناس عنه لا يمدحونه ولا يذمونه ورب خالٍ من ذنب كان سبب وقوعه في هُوه شقوة في عيش الدنيا والآخرة , وعلى قدر إجلالك لله تعالى في الخلوات , يجلك الله تعالى ويعظم أمرك في الجلوات وفي القلوب "[11]
وقال ابن الجوزي رحمه الله : " إخواني اسمعوا نصيحة من قد جرّب وخبر إنه بقدر إجلالكم لله عزوجل يجلكم , وبمقدار تعظيم قدره واحترامه يعظم أقداركم وحرمتكم. ولقد والله من أنفق عمره في العلم إلى أن كبرت سنّه , ثم تعدى الحدود فهان عند الخلق وكانوا لا يلتفتون إليه مع غزارة علمه وقوة مجاهدته , ولقد رأيت من كان يراقب الله عزوجل في صبوته مع قصوره بالإضافة إلى ذلك العلم فعظم الله قدره القلوب حتى علقته النفوس , ووصفته بما يزيد على ما فيه من الخير "[12]
ورحم الله ذا النون المصري كان يقول : " كان العلماء يتواعظون بثلاث ويكتب بعضهم إلى بعض : من أحسن سريرته أحسن الله علانيته , ومن أصلح ما بينه وبين الله أصلح الله ما بينه وبين الناس , ومن أصلح أمر آخرته أصلح الله أمر دنياه "[13]
وقال غيره : " روائح نسيم المحبة تفوح من المحبين وإن كتموها ويظهر عليهم دلائلها وإن أخفوها وتبدو عليهم وإن ستروها " [14]
وبعد فإني انصح إخواني من المسلمين والمسلمات أن يحفظوا الله تعالى في خلواتهم ويراقبوا أنفسهم ويحاسبوها قبل حلول الأجل فإن السعيد من ألجم نفسه بلجام التقوى وانزلها منازل الهدى , وحملها على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم, وإذا دعتك أخي المسلم نفسك في الخلوة إلى الحرام فلا تتابعها ولا تسترسل مع هواك فإن الخير في مخالفة الهوى وإن من ترك شيئًا لله تعالى عوضه الله خيرًا منه , وليحاول المسلم أن يأخذ منهاجه من الكتاب والسنة ويسير على درب رسول الله صلى الله عليه وسلم والله الموفق لا إله غيره ولا رب سواه .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
[1] أورده ابن القيم في الجواب الكافي .