مذكرة عائد من غزة لدكتور يوسف عبداللاوي

الدكتور : يوسف عبد اللاوي

دروس مستفادة من زيارة غزة
إن من رحمة الله بهذه الأمة أن جعلها مستعلية بإيمانها حتى لو توالت عليها
الهزائم وتكالب عليها الأعداء:[وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ
الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ]

ومن
أهم عوامل استعلاء الأمة بإيمانها أن ترى بين أبنائها بين فينة وأخرى من
يعيدون سير الأوائل ، ويرسمون معالم التاريخ ، عظماء تسير العظمة حيث ساروا
ويدور النصر حيث داروا .
على قدر أهل العزم تأتي العزائم ... وتأتي على قدر الكرام المكارم
وفي
غزة حيث كنا قبل أيام ضمن قافلة "شريان الحياة رقم (5)" كانت لنا من
الوقفات والمشاهد مع أفذاذ من الناس ممن يصنعون أمجاد فلسطين ويكشفون عن
وجهها المضيء المتلألئ .نريد أن نتأمل عددا من المشاهد التي استوقفتنا
لنصلها بالماضي ونقرأ من خلالها الحاضر والمستقبل .
المشهد الأول: الطفل الفلسطيني الذي قهر بصموده كبرياء الطغاة الصهاينة
والذي جسدته واحدة من ضحايا الغدر الصهيوني في حرب الفرقان بنت لم تتجاوز سن العاشرة من عمرها من بيت (آل السموني) حكت مأساتها أمامنا ببلاغة يعجز عنها الفصحاء والخطباء وأرباب الكلام ويا
لها من لحظات عصيبة كانت شاهدة عيان عليها، تهشّم رأس أبيها أمام ناظريها،
وسُحقت عظام أمها وهي ترقب المشهد بذعر وحيرة وألم ثم أخذت تعدد من سقط من
أسرتها جراء الغدر الصهيوني واحدا تلو الآخر إلى أن وصل التعداد إلى ما
يقرب من الثلاثين ومن أسرة واحدة كانت الغصص والعبرات تخنقها
بين الحين والآخر، إلى أن صرخت بأعلى صوتها لتقول بالأصالة عن نفسها
وبالنيابة عن زميلاتها وكامل أطفال فلسطين بأننا لن نستسلم ولن نطأطئ
الرؤوس.....
هذا
المشهد يذكرنا بأسلوب رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية النشء على
معاني العزة والكرامة والقوة، فكان يدعو أولياء الأمور لتدريب أبنائهم على
السباحة والرماية وركوب الخيل وتأهيل أجسامهم لتكتسب الصحة والقوة (المؤمن القوي خير...)، وتهيئة عقولهم ونفوسهم بأخبار من سبقوا من الناشئة الذين قادوا الجيوش وفتحوا الأمصار من أمثال أسامة بن زيد ومحمد الفاتح وغيرهم.
المشهد الثاني: الشاب الفلسطيني الذي يحتضن المصحف والبندقية ويدوس على لذائذ الدنيا الدنية
الشاب
الذي يتفجر حيوية وقوة ونضارة الذي طلق حياة الملذات والشهوات وأقبل على
الله في الخلوات، وأسهر ليله مرابطا يحرس الأرض والعرض والمقدسات، أصبعه
على الزناد وروحه بين كفيه تتطلع للتحليق في روضات الجنات .
هذا حال المقاومين من شباب القسّام ممن
رأتهم أعيننا وصافحتهم أيادينا وعانقتهم أجسادنا ترى الواحد فيهم بالنهار
مرابطا في مكان عمله أو دراسته وبالليل مرابطا على ثغر من الثغور، أصبعه
على الزناد وعينه على البلاد والعباد .
إنه مشهد يذكرنا بأفراد الدهر وعظماء التاريخ ممن كانوا في مثل هذا السن ممن وصفهم الشاعر فقال.
شباب ذللوا سبـــل المعالي.. ... وما عرفوا سوى الإسلام دينا
إذا شهدوا الوغى كانوا كماة .. ... يدكّون المعاقل والحصــونا
وإن جن المساء فلا تـراهم .. .... من الإشفاق إلا ساجــدينا
شباب لم تحطمه اللـــيالى .. ... ولم يسلم إلى الخصـم العرينا
ولم تشهدهـم الأقداح يوما .. ... وقد مــلؤوا نواديهم مجونا
كذلك أخرج الإسلام قومي .. ... ..شبابا مخلـــصا حرا أمينا
شباب
بمثل هذه الصفات يذكروننا بمصعب بن عمير الذي جاءته الدنيا وهي راغمة فقال
لها إليك عني ورابط في محراب الطاعة والزهد، وسافر لتبليغ الدعوة والعلم،
ولما نادى منادي الجهاد تقدم الصفوف ورحل إلى العلياء مضرجا بدماء الشهادة
ليرتع في النعيم المقيم عوضا عن شهوات ولذائذ الدنيا الزائلة والتي يلهث وراءها شبابنا اليوم.
المشهد الثالث: رجولة تعاف كسرة الخبز إذا كانت على حساب العزة والكرامة
ذلك منطق رجل من عامة الناس في غزة كان يصرخ لنا بأعلى صوته قائلا: لا نريد طعاما ولا شرابا، نريد سلاحا ندافع به عن أرضنا وعرضنا ومقدساتنا، نريد عزة وكرامة وحرية .
وهذا
المشهد هو الذي كرس النبي صلى الله عليه وسلم حياته من أجل تثبيته في قلوب
أصحابه وجعل مفتاحه الجهادَ في سبيل الله، حتى انقلبت حياة الصحابة من
النقيض إلى النقيض من حياة الذل والاستعباد في الجاهلية إلى التنافس في رسم
أروع صور البطولة وبذل المهج في سبيل الله من أجل كسر أغلال الاستكبار
والتجبر والطغيان حركتهم في ذلك آيات الرحمان من مثل قوله تعالى (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا) (وقاتلوا المشركين كافة) (ولا تهنوا ولا تحزنوا..)كما حركتهم أحاديث سيد ولد عدنان محمد عليه الصلاة والسلام من مثل قوله (ما ترك قوم الجهاد إلا عمهم الله بالعذاب) (أبو داود وابن ماجة)[من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من نفاق](أبو داود)«إذا تبايعتم بالعينة، وأخذتم بأذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد، سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم»(أبو داود).
وأهل غزة استوعبوا الدرس فسلكوا سبيل العزة والكرامة، وتركوا لغيرهم من المنهزمين سبيل الخسة والنذالة، وإن غدا لناظره قريب (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون) [الشعراء: من الآية227].
المشهد الرابع: أم تزف أبناءها في أعراس الشهادة
إنها
أم نضال فرحات خنساءُ فلسطين عضو المجلس التشريعي الفلسطيني عن حركة حماس،
قدمت ثلاثة من أبنائها للشهادة على ثرى فلسطين، دفعتهم إلى بذل نفوسهم
وحرضتهم على الاستبسال في مقارعة العدو، ولما جاءها خبر نعيهم هللت وكبرت
وسألت الله تعالى أن يجمعها بهم في الجنة استقبلتنا في بيتها الذي هدمه الصهاينة ثلاث مرات فسمعنا منها كلاما عجبا،
فرغم كل التضحيات إلا أنها قالت بأنني على استعداد للتضحية بنفسي ومن تبقى
من أبنائي إلى آخر قطرة دم في سبيل الحرية وتحرير الأرض .
وإن امرأة كهذه تذكرنا بالخنساء الصحابية الجليلة التي ملأت الدنيا صراخا وعويلا في الجاهلية عند مقتل أخيها صخر، ومن شعرها:
يذكرني طلوع الشمس صخراً وأذكره بكل غروب شمس
ولولا كثرة الباكين حـولي على إخوانهم لقتلت نفسي
ولكن
الإسلام أحدث انقلابا هائلا في حياتها إلى الحد الذي قدمت فيه أبناءها
الأربعة للاستشهاد في سبيل الله في معركة القادسية، وحرضتهم على الاستبسال
في القتال ، فلما أصبحوا باشروا القتال بقلوب فتية، وأنوف حمية، وظلوا كذلك حتى استشهدوا واحداً بعد واحد.
وبلغ
الأمَّ نَعْيُ الأبطالِ الأربعة في يوم واحد، فلم تلطم خداً ولم تشق
جيباً، ولكنها استقبلت الخبر بإيمان الصابرين، وصبر المؤمنين وقالت: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
المشهد الخامس: القائد الرباني الذي يجمع بين صلابة المقاومة وحكمة السياسة
إنه المجاهد إسماعيل هنية الذي يجمع بين إمامة الناس في الصلوات وإمامتهم في السياسة ورأس حربتهم في المقاومة، استمعنا
إلى خطبته فاستمتعنا بحلو الكلام وبلاغة المنطق وحرارة العاطفة وعمق
الطرح، وصلينا خلفه فشنف أسمعانا بتلاوة متقنة وصوت جميل وكأنك خلف قارئ
فحل، واستقبلنا في قصر الحكومة فخاطبنا بلغة السياسي المحنك الذي يجمع بين
الواقعية في الطرح والثبات على العهد، وإذا جنّ الليل يأخذ موقعه مع
المرابطين على الثغور يقاسمهم أجر الرباط والجهاد في سبيل الله .
و
والله إن هذا الأمر يذكرنا بالعهد الأول للإسلام يذكرنا بأبي بكر وعمر
وعثمان وعلي وبعمر بن عبد العزيز ممن كانوا أئمة في الدين والدنيا، ممن
كانوا يسوسون الناس بشريعة الله ويسعون لقضاء حوائجهم وتفقد أحوالهم ممن
كانوا يشبعون بعد أن تشبع الرعية وينامون بعد أن تنام الرعية، فإذا جدّ
الجد وحمي الوطيس تراهم في مقدم الصفوف يقودون الجيوش لإعلاء كلمة الله،
لحماية الأرض والعرض والمقدسات.
وما أحوج الأمة اليوم إلى هكذا رجال يصلح بهم حال البلاد والعباد وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما قال: "خيار أئمتكم الذين تحبونهم ويحبونكم..." مسلم.

اللهم إنا نسألك إيمانا كاملا ويقينا صافيا وعملا متقبلا. آميـــن.